فاروق الباز
تم اختيار الحكومة الحالية بعد قيام من انشغل فى هذا الأمر تحت ظروف صعبة ولكل منا حق فى إبداء الإعجاب أو الاستياء حيال هذا الاختيار، مع ذلك فهى حكومة مهمتها تسيير الأمور قدر المستطاع كما حاولت حكومات ما بعد ثورة 25 يناير 2011، نجحت أو فشلت هذه الحكومات تبعاً لمقدرة وزرائها وما كان يحيط بهم من أوضاع، لذلك علينا أن نشارك فى تأهيل حسن المسيرة فى المستقبل لمصلحة الوطن.
تمر مصر حالياً بفترة حرجة، يأمل الخيرون أن ينتج عنها وفاق يشمل جميع الأطراف، ويؤهل الحياة الكريمة والحرية الشخصية والرفعة الجماعية فى مصر، يجب إذاً التفكر فى كيفية قيادة السفينة بحكمة واتزان بالرغم من الرياح العاتية فى الأجواء الحالية.
لا شك فى أن إرساء الأمن والأمان فى جميع ربوع الوطن والعمل على الإصلاح الإدارى ورفعة الاقتصاد ودعم السياحة وما إليها من أولويات العمل فى المستقبل القريب، وكذلك فإن إصلاح التعليم على كل مراحله وتحسين الخدمات الطبية ودعم البحث العلمى والإنتاج الصناعى تتطلب الاهتمام على المدى الطويل.
فى نفس الوقت فإن تأمين الغذاء يأتى فى مقدمة العمل الجماعى وذلك لأن فى الاقتراض من البنوك العالمية مهانة وشر يديم الفقر والتبعية، كذلك فأهمية توفير الغذاء تتوافق عليها كل فصائل المجتمع دون أى فرق بين مسلم وقبطى أو ليبرالى وإخوانى أو علمانى وسلفى وما إلى ذلك من مسميات، أهم من هذا كله هو هدف يمكن تحقيقه بالقدرات الذاتية خلال عام أو عدة أعوام قليلة.
لقد أثبت تاريخ البشرية على مدى العصور أن النجاح فى إرساء الحضارة وتقدم الأمم اعتمد دائماً على ثلاثة مقومات أولها تأمين الغذاء لكى تنمو الأجساد وتنتعش العقول، والثانى هو الحكمة فى تقسيم العمل بين أفراد المجتمع لكى يشعر كل فرد أن لعمله قيمة، والثالث هو إرساء الحياة الكريمة فى المدن ليتمكن بعض قاطنيها من الإبداع والابتكار لرقاء المجتمع بأكمله.
إذاً علينا أن نبدأ فى تغيير المسار الذى أدى إلى القحط الغذائى الذى نتج عن تقليص الجهود فى إنتاج ما يكفينا، لقد تعثرت الحكومات فى مجابهة الوضع المشؤوم واحدة تلو الأخرى، وبقى الحال على ما هو عليه، كما تقول مسيرات الناس فى تونس بعد ثورتها «حكومات راحت وحكومات جات والأحوال هيه هيه».
لكل ذلك فإن حكومة الظروف الحالية يمكنها أن تجمع الناس تحت شعار واحد «حنأكل نفسنا» يفهمه كل الناس ويتبين لكل فرد فيه مكان مرموق، هذا فى حد ذاته يهدى النفوس ويؤهل المسيرة الجماعية، أهم من ذلك فإن هذا العمل المتعدد المجالات يواجه مشكلة بطالة الشباب بسرعة فائقة، كل الرجال والنساء يمكنهم العمل فى الزراعة أو الإنتاج الحيوانى أو النقل أو التوزيع أو الإعداد أو التجارة، كذلك فكل هذه المجالات تتطلب الإبداع الفردى والجماعى على حد سواء.
تصح الإشارة هنا إلى بعض المبادرات الشبابية حيال مقترح «ممر التنمية»، فقد أنشأت مجموعة من شباب المستثمرين «المؤسسة المصرية لمحاور التنمية» لدعم دراسة المقترح، ومثله كذلك قام الطلبة والطالبات فى كليات الهندسة بجامعتى المنصورة والبريطانية بالتنافس لتقديم المقترحات الهندسية لما يمكن أن يتم على ممر التنمية، تحت إشراف الدكتور أحمد راشد، كذلك أبانت الشابة نورة الشريف أن موقعاً خاصاً فى «فيس بوك» جمع أكثر من 140 ألف شاب، وظهرت حملة أخرى بدأتها الشابة شيماء متولى تحت شعار «مش عايزين قرض عايزين حتة أرض»، إضافة إلى هذا قام الشاب محمد منجد بمبادرة غرب بنى سويف بزراعة فسائل أشجار الزيتون فى صحرائها، كما يقوم المغامر هشام نسيم باختيار أحسن مسارات للممر.
كل هذه المبادرات هى فقط أمثلة لما يقوم به شباب مصر حيال مقترح واحد وذلك لتهيئة إنتاج الغذاء وتوفير العيش الكريم لأهل مصر.
علينا أن نتذكر أن إنتاج الغذاء بوفرة كان من أعظم سمات أهل مصر على مر العصور، لم يتغير ذلك إلا بالأنظمة الحكومية البالية تحت شعار الاشتراكية التى اتصفت بالجهل الإدارى، ومركزه توزيع البذور والسماد، وما إلى ذلك بواسطة مؤسسات لا خبرة لها ولا علم بالموضوع ولا بحرفية الفلاح المصرى وقدراته الفريدة.
استمر إنتاج الفلاح المصرى بكل ما يلزم الناس ويفيض منذ عهد الحضارة المصرية القديمة حتى عهد قريب، على سبيل المثال عندما دخل الإسلام إلى مصر تحت قيادة عمرو بن العاص وصله خطاب من الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنهما سائلاً إياه إرسال بعض الحبوب لأن القحط الغذائى كان قد أصاب بلاد الحجاز بأكملها، ورد عمرو بن العاص «من الفسطاط» مخاطباً الخليفة «فى مكة» بما معناه أنه قد أرسل الحبوب من إنتاج الفلاح المصرى على متن قافلة من الجمال «أولها عندك وآخرها عندى»، استمر هذا «المحمل» فى إهداء الحبوب إلى أهل الحجاز إلى أن اكتشف النفط فى منتصف القرن الماضى واستعانوا بثمنه لشراء ما يلزمهم. يدل ذلك على أن شعب مصر قادر على إنتاج ما يكفى من غذاء ويفيض، لذلك علينا أن نحيى أى عمل يصب فى هذا المجال لأنه يعتبر فى مقدمة الأعمال الوطنية المهمة، ويعيد الشعار المقترح العزة لمصر التى يتطلبها الوضع الحالى وذلك بالقيام بما يلى:
أولاً: مصارحة الناس بمضار الاقتراض من البنوك لتوفير الغذاء وآثاره السيئة على الإنماء الاقتصادى والاجتماعى على حد سواء.
ثانياً: دعم المواطنين والمواطنات للعمل فى هذا المجال بالخروج من النمط الحكومى المعتاد - وهو البقاء فى المكاتب وإصدار التعليمات البالية - لأن التواصل مع الناس فى مكان عملهم يؤهل حل المشاكل أولاً بأول ويسهم فى استمرار العمل وإتقانه.
ثالثاً: تشجيع كل من يعمل فى هذا المجال أفراداً وجماعات مثلاً بتمليك الأراضى التى يتم استصلاحها بحد أقصى 10 أفدنة إذا ما استمر إنتاج الغذاء فيها خمس سنوات.
رابعاً: تقدير التميز فى العمل الفردى والجماعى بجوائز مالية أو شهادات تقديرية وما إلى ذلك من دعم للإبداع والابتكار خاصة بين الشباب.
خامساً: حث الإعلام بكل روافده على تخصيص الجزء الأكبر من عمله فى نقل التجارب الناجحة والصور المشرفة والاجتهادات الفردية والجماعية فى جميع أنحاء مصر.
يلزم كذلك تعاون مؤسسات الدولة للوصول إلى الغرض النبيل شاملاً ذلك وزارات الزراعة والمياه والبيئة والشباب والدفاع وكل من له باع فى الموضوع، هناك أيضاً العديد من مراكز البحوث التى يمكنها عرض كل ما لديها من معلومات تساهم فى نجاح المخطط مثل مركز البحوث الزراعية «لتحديد أحسن المواقع» ومركز الصحراء «لخصائص التربة» والمياه «لمواقع المياه الجوفية» والمساحة الجيولوجية «لتوفير الخرائط» والاستشعار عن بعد «لعرض الصور الفضائية»، وكذلك المركز القومى للبحوث وأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا. ويا حبذا إن اجتمع الوزراء ورؤساء المراكز شهرياً لمناقشة ما تم عمله على الدوام فنحن نود أن يشعر كل من يقومون بالعمل فى هذا المجال أن حكومتهم فى خدمتهم دائماً.
تزخر مصر بالأماكن التى تؤهل التوسع فى الإنتاج الزراعى أو تربية الأبقار والأغنام والجمال والطيور والأسماك أو إنتاج الزيوت للاكتفاء الذاتى أو للتصدير للحصول على العملات الصعبة.
تشمل الأماكن التى يمكن التوسع فيها الأرض المستوية على جانبى الدلتا وحول قناة السويس، كذلك تمتد الأرض المنبسطة غرب النيل من بنى سويف حتى أسوان، والتى تغطيها تربة صالحة للزراعة من ترسيبات النيل فى قديم الزمن وتحتفظ بالمياه الجوفية التى يتسرب بعضها من مياه النيل، مثلاً هناك سهل يمتد من غرب كوم أمبو إلى غرب إسنا بمساحة مليون فدان تقريباً ربما تكفى لسد حاجتنا من القمح، وتقع بالقرب من أماكن تكدس السكان والأيدى العاملة.
هناك أيضاً سهول فى أودية الصحراء الشرقية مثل كوم أمبو وقنا والأسيوطى، كذلك فإن روافد وادى العريش تمتد من وسط سيناء حتى شمالها، وتوجد تحتها مياه جوفية تتغذى بأكبر كمية من الأمطار التى تصل إلى أرض مصر والتى تتجمع على شكل سيول تهدد مدينة العريش بين آونة وأخرى، كما أن هناك مساحات من الأراضى فى جنوب سيناء فى وادى وتير شرقاً وسهل القاع غرباً، إضافة إلى ذلك تؤهل مساحات بطول الساحل الشمالى الغربى إنتاج أصناف فريدة من الحبوب والفاكهة، كما أن واحات الوادى الجديد تزخر بالمواقع التى تسمح بإنتاج الأكثر، إضافة إلى ما يوجد فى شرق العوينات وتوشكى من أراض يمكن استخدامها فى إنتاج الغذاء.
لا يصح إذاً أن يقتصر الجهد على موقع دون غيره، كذلك لا يصح التفلسف العلمى بالقول إن هذا المكان أحسن من ذاك أو أن «مقترحى أحسن من مقترحك» لأن التضارب فى مثل هذا الأمر يؤدى إلى إحباط الهمم وبلبلة أفكار الناس، فإذا أمكن لأى فرد أو مجموعة إنتاج أى نوع من الغذاء فى أى من ربوع الوطن قريباً أو بعيداً عن مكان المعيشة علينا أن نعتبر ذلك عملاً قديراً لأهميته فى دعم الاقتصاد وأمن الوطن واطمئنان أهله جميعاً.
يلى ذلك فى الأهمية أن تعاون الجميع حكومة وأفراداً يثبت أن فى مقدورنا مجابهة الصعاب يداً بيد لحل مشاكلنا ورفعة وطننا.
لكل ما سلف فإن «حنأكل نفسنا» شعار موحد له وقع عميق على نفس الناس جميعاً، إنه شعار سهل الفهم محدود الغرض طيب السمعة قابل للنجاح، يحتوى مغزى الشعار على احترام الذات والقدرة الشخصية والهمة الجماعية، كذلك يؤهل الشعار التنافس المجدى خاصة بين الشباب فى إعلاء الوطن وحل مشاكلهم بقدراتهم الذاتية وعبقريتهم المصرية الفريدة.
يتطلب الوصول إلى الغرض النبيل رؤية ثاقبة وقيادة واعية وإدارة رشيدة لفترة قصيرة، نتمكن بعد النجاح فى هذا العمل الوطنى المهم فى وقت قصير أن نجابه الإصلاحات التى تستدعى الصمود لعقد أو أكثر من الزمان بشجاعة واطمئنان، والله الموفق
تعليقات
إرسال تعليق